منتديات الأشراف العروسيين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كتاب الاسبوع الرابع : لقاء ابن رشد وابن عربي 1

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

كتاب الاسبوع الرابع :   لقاء ابن رشد وابن عربي 1  Empty كتاب الاسبوع الرابع : لقاء ابن رشد وابن عربي 1

مُساهمة من طرف Lahmayd boumahdi الجمعة 10 يونيو 2011, 11:07 am

إن قارئ "الفتوحات المكية" على وجه الخصوص يقف على حقيقة معينة وهي وسع هذا الفضاء النظري-المعرفي، والذي يبدأ شعرا وينتهي بتعداد أصناف العلوم المتنوعة وأغلبها علوم الأسرار. مما يعني أننا أمام نص مختلف التضاريس تحكمه جغرافية خاصة أو أمام جيو-فلسفة بلغة ج-دولوز. هذا ما يجعل من القارئ غير مستقر على أرض محددة يمكن عبرها رصد القضايا والمسائل؛ فهل نحن أمام خطاب متشظي -ما يظهر منه سوى النصف- وتحكمه النسبية لا الإثبات وغياب النسقية في القول؟

والأهم من هذا هو أن الشيخ الأكبر يعترف بذلك مهيئا قارئه إلى جيو-صوفية هذا المتن قائلا "وأما التصريح بعقيدة الخاصة (التي هي مذهبه الشخصي) فما افردتها على التعيين لما فيها من الغموض. لكنها -كما ذكرنا- متفرقة فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف أمرها ويميزها من غيرها. فإنها العلم الحق، والقول الصدق، وليس وراءها مرمى ويستوي فيها البصر والأعمى. تلحق الاباعد بالأداني وتلحم الأسافل بالأعالي!"(23).

إن الشيخ الأكبر ينبه متلقيه على تضاريس الكتابة وتنوعها فهي موجهة إلى فئة معينة وصنف خاص، وليس الغرض منها إثبات حقيقة من الحقائق أو الانتصار لمذهب دون آخر بل يحكمها التبديد والفرق، فهي موزعة ومفصلة منهجا وموضوعا. والغرض من ذلك هو بيان الحقيقة وإبراز عمقها الخفي. فما أساس هذه المقاربة والبحث؟ وما الأداة المتبلورة في إظهار هذا الخفي؟

إن مرجعية "التبرير" راجعة إلى الموضوع المبحوث عنه والذي من خاصيته أنه لا منضبط وغير قابل للإحاطة. وهذا هو عمق الإشكال، ولتفكيك هذا اتخذ الشيخ الأكبر من الصورة أو تجليات الحقيقة في صور معبرا للإطلالة على هذا الغير القابل للإحاطة. لكن الصورة تحمل دلالة متعالية وأخرى وجودية، هذه المفارقة تعلن عن لا-ثبات الصورة وبالتالي تعددها بخلاف الصورة الجسمية الملتصقة بالمادة والتي تعطي جسما وحركة أو موضوعا قابلا للقياس علميا. بينما الصورة المعنية هنا هي أنها "برزخية"، ثباتها هو موتها وهذا ما جعل من القول "الحاتمي" أكثر تجذرا من غيره، فهو انتهك الممنوع وخرج عن المألوف والاعتيادي بإعطائه قيمة معرفية وأنطولوجية للصورة، ولأن ما وراءها شكل وتعمل على إخفائه وحجبه. إضافة إلى أن هذه الصورة تحكم تسميتنا للإله وحدنا له في علاقة الخفاء بالتجلي أو القول بالإله الظاهري والإله المعتم. وهذه الأهمية المعطاة -للصورة- يحددها الشيخ الأكبر بأنها من أعوص الأمور وأساس القول الإشكالي، بل هي موضوع الاختلاف "وهذا من أشكل الأمور في العلم الإلهي، اختلاف الصور"(24). إن منزلة الصورة متمثلة هنا خارج الحقل العلمي-الطبيعي أو خارج مشكل الحركة والمحرك. وهذا ما أعطى للقول الإشكالي مع ابن عربي أفقا يختلف والمنحى العقلي-الرشدي. هذا الأخير الذي ينتج مساءلته بالتقابل بين المواقف رغبة في المحالات الناتجة عن ذلك أو وجود شكوك تحول دون وجود حل وهذا ما يحول الصعوبات وأهميتها إلى جزء من الحل. بينما صاحب "الفتوحات المكية" يرى بأن الأمور الصعبة والعويصة أساسها الالتباس والتثبت حول صورة معينة دون تتبع تحولاتها. لأن هذا الالتصاق -التثبت- في نظره هو جزء من المعرفة المشتركة والاعتيادية كما هو الأمر بالنسبة للمعرفة والاعتقاد الظاهريين، وقد بلور هذا في "فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية"، بنقده للمنحى العقلي الاعتزالي مؤكدا على أن الاعتقاد المثبت حول صورة محددة هو اعتقاد ظاهري وسطحي-العامة. لهذا فالوعي بتحول الصور هو خروج من العالم الأضيق إلى الأوسع، إنه انفتاح وتفتح ويمثل هذا بشكل "القرن" أعلاه واسع واسفله ضيق. هذا ما يدعو إلى تحديد مفهوم "الأشكلة" الوارد في النص السابق، فهي معرفيا استنطاق لا يستقيم إلا بحد الإشكال وتوسيع حقله إلماما بالأعلى والأسفل: الحق والخلق. وهي بهذا ترك الخطاب ينفتح على أقاويل أخرى فقهية، كلامية، فلسفية علمية لهذا نجد خطاب الشيخ الأكبر يستحضر علوما متعددة من الإلهيات إلى السيميائيات مرورا بالأرتيمتيكا والكوسمولوجيا.

إن إحساس ابن عربي بمنزلة "الأشكلة" يرجع إلى مكانة مفهوم المفارقة التي أفرزها القول بالوسيطية أو البرزخ في وضعه الأنطولوجي كعالم للصور -البرزخ-، مما جعل من الأشكلة أداة للفتح والوحدة أو ترك العمق يظهر وبالتالي ينكشف. وهذا معناه جعل الحل يطفو على السطح "لولا البرزخ لأشكل الأمر". وبمعنى آخر لولا عالم الصور لما تأسست المفارقة ولما تميز الحق الخلق. وفي هذا الأفق تأتي أهمية الصورة إنها دافعة إلى تمثل معين للحق، فهي كيفية ونوعية وليست كمية. ولأن الصورة تتكلم لغات متعددة فهي ناطقة أو حاملة لحقيقة -حقائق- فبالإضافة إلى بعدها المعرفي فهي دالة على أساس وجودي -أنطولوجي- إنها جسد للروحاني، وهذا ما يحدد وجودها الحسي، أما وجودها النوراني "فإنها (أي الصورة) للروحاني، كالنور مع السراج، المنتشر في الزوايا نوره، فإذا غاب جسم السراج فقد ذلك النور. فهكذا هذه الصورة"(25).

إن أهمية هذا القول تتجلى في تحويل الصورة إلى جسد: الأول مادي والثاني برزخي أو صورة مثالية. وبهذا المعنى فهي ذات وجهين، ظاهري وباطني. لكن منزلتها في الوجود ستعمل على إعادة النظر في مفهوم الحق، بل توسيع مجاله وتسميته. فإذا أمكن القول بأن الجامع بين ابن رشد وابن عربي هو هذا المفهوم، فإن الاستعمال الدلالي -الاسمي- له يجعله متموضعا في مرتبتين، وذلك راجع إلى الوضع الوجودي الذي تحتله الصورة. مميزا في ذلك بين "الحق المخلوق به" والعالم المخلوق وهما في رأيه نظيرا "الجوهر الهبائي" و"الصورة": وهذا الجوهر هنا هو الجامع لصور العالم، إنه الحقيقة الكلية أو "حقيقة الحقائق"، يقول: "فمن رأى أن "الحق المخلوق به" مظهر صور العالم، ظهرت فيه بحسب ما تعطيه حقائق الصور على اختلافها-نسب الأفعال إلى الحق. ومن رأى أن أعيان الممكنات التي هي العالم، هو "الجوهر الهبائي"، وأن الحق المخلوق به هو الصورة في هذا العالم وتنوعت أشكال صوره لاختلاف أعيان العالم، فاختلفت عليه النعوث والألقاب كما تنسب الأسماء الإلهية من اختلاف آثارها في العالم-(نقول) فمن رأى هذا نسب الفعل إلى الله بصورة الصورة الظاهرة ومن رأى أن ظهور الصورة لا يتمكن إلا في الجوهر الهبائي، وأن الوجود لا يصح للجوهر الهبائي في عينه إلا بحصول الصورة، فلا تعرف الصورة إلا بـ"الجوهر الهبائي"، ولا يوجد "الجوهر الهبائي" إلا "بالصورة" نقول من رأى هذا نسب الأفعال إلى الله بوجه وإلى العباد بوجه"(26). إن الحق في علاقته بالخلق يحدد وضعية الصورة في الوجود، فعبرها يتم إعادة ترتيب "الرابطة الوجودية"، لأن هذا التقابل يثار داخل إشكالية الظهور، مما يجعلنا أمام ما يسميه الشيخ الأكبر "بعلم ظهور الابتداء" أو بدء الظهور: إنها بداية ظهور الحق الذي لا يتمظهر إلا بصور وفي صور "والبدء هو افتتاح وجود الممكنات على التتالي والتتابع لكون الذات الموجودة له اقتضت ذلك من غير تقييد بزمان"(27).

إن "الافتتاح الوجودي" هو ما فرض المقابلة بين "الحق المخلوق به" والعالم أو "الجوهر الهبائي" والصورة، كما أن هذا التصور يتجه نحو بلورة لأطروحة الإيجاد، كفعل بدئي وأولي، بحيث إنه لا أولية بين الحق والخلق: "إذ لا أولية للحق بغير العالم، لا يصح نسبتها ولا نعته بها"(28).

فالقول بالأولية هو ظهور للحق في صور أو تحول للأعيان الثابتة إلى وجود أو إظهار للمخفي، هكذا يكون مفهوم "الحق المخلوق به" هو الحق الظاهر في الصور، لأن هذه الأخيرة بها سمي الحق أوليا وبالتالي موجدا. كما أن "الجوهر الهبائي" لا يكون موجدا إلا بالصورة ففي خفائه يبقى لا-متعينا، بينما الأمر متعلق هنا بكثرة الظهور أو المظاهر في لانهائيتها، ولأن ما سوى الحق هو صور دالة، بدونها نكون أمام أحدية-المطلق.

فسواء سميناه "الجوهر الهبائي" أو "الحق المخلوق به"، فإن الصورة تلعب دورا وسيطيا، في هذا الظهور أو تحول الأعيان من ثبوتها إلى مظاهر موجودة ومتحققة في العالم: "فلا تعرف الصورة إلا بـ"الجوهر الهبائي" ولا يوجد الجوهر الهبائي إلا بالصورة". إننا إذن أمام دور أنطولوجي ومعرفي للصورة. فهي أساس الوجود أو تحويل الشيء إلى موجود، وأن معرفة الحق رهينة بتحول الصور وتجددها، وهذا المرمى هو استبدال وإعادة نظر في مفهومي القوة والفعل المؤسسين على العلاقة العلية. أما الشيخ الأكبر فيتجه إلى بناء "رابطة وجودية" أساسها "المعية" وهي أكثر حالا من "القبلية" و"الآينية".. فالحق من حيث ذاته غير مشروط بالأشياء بل الأشياء مشروطة به، لأن الأمر يتعلق بحقائق الأسماء الإلهية التي لها الحكم، وهي شرط الوجود وطريق تجلي الحق في الخلق أو ظهورها فيه. وهذا ما دفع إلى إعادة النظر في مفهومي الفاعل والواحد؛ لأن الرابطة بين الحق والخلق تراهن على نفي التضاد والمماثلة بعد فحصهما، ولأنهما يتحولان إلى حجب مانعة وبالتالي طريق الالتباس: فنفي الضدية بعد إثباتها راجع إلى أن أحدهما لا ينفي الآخر ولا تماثلية لأننا لا نفكر في الواحد بالآخر، بل في الرابطة المتحققة بينهما كأساس لبناء علاقة ماهيتها التناسب. وهذا مايبلور ذلك التمايز بين الواحدية والآحدية والتوحيد.

إن هذا التأسيس النظري لمسألة الجوهر مع ابن عربي يعمل على بناء تصور للحق خارج إحداثيات العقل، مما يحول هذا المفهوم إلى مبحث ما وراء العقل ذاته أو ما يسميه "بطور ما وراء العقل". فهبائية الجوهر هنا جامعة لصور العالم، وهذه الجمعية محددة في النور "فإن النور صورة في الهباء، كما أن الهباء صورة فيها "في حقيقة الحقائق"(29).

فتحول الجوهر الهبائي إلى موجود تطلب خروج الصورة من عتميتها أو وجودها بالقوة إلى الفعل أو الظهور. هذا الجدل الداخلي أو "التمفصلات الداخلية" بلغة "توشيهوكو أوزتسو" يتخذ فيهما "الجوهر الهبائي" منزلة الأصل، وبالتالي فهو "الحق المخلوق به" الذي يأتي مرادفا "للعدل" عند ابن برجان، وماهيته هاته -عدله- هي في وضع الصورة في الوجود أو تحول الأعيان التابتة إلى وجود فعلي: فالظهور العادل للصورة هو ما يؤدي إلى القول بأن "الحق المخلوق به" مفهوم آخر "للإله الظاهري": فـ"أعيان العالم هو "الجوهر الهبائي" إلا أنه لا يوجد إلا بوجود الصورة، وكذلك أعيان العالم ما اتصفت بالوجود، إلا بظهور الحق فيها. فـ"الحق المخلوق به" (هو) لها كـ"الصورة""(30).

"فالوجود الهبائي" هنا يدفعنا إلى القول بأن ماهيته ليست في ذاته بل بملازمة الصورة له، وهذه الأخيرة تتطلب ظهورا أو تجليا للحق في المظاهر أو للوحدة في الكثرة. فإذا كان التصور الرشدي والمشائي عامة يرى الجوهر كمقولة خاصة بالوجود وبالتالي موضوعا للانتقال من القوة إلى الفعل عبر الحركة كأساس أولي لمبدأ العلية، فإن الخروج عن هذا المناخ مع الشيخ الأكبر يجعل من الحق ذاته حامل لصفة المطلق، لأن وجوده غير مشروط بوجود العالم، فهو كذلك سواء وجد العالم أو لم يوجد، وما الإيجاد سوى تحول للموجود من عين الجمع إلى التفرقة، من الحقيقة الكلية-الهبائية- إلى الحقيقة المفصلة. و"حقيقة الحقائق" عنده جنس ما فوقه جنس وتحتها أنواع وفصول، إلا أن هذه التراتبية ليست منطقية خالصة، بل هي عنده رمزية يتم التركيز في بيانها على "علم الحروف". وهذا ما يفتح أفقا آخر وهو بيان تراتبية الوجود، بتفكيك "الاسم" وإظهار "المسمى". هذه العلاقات دالة على المعنى الدائري للوجود، فالانتقال من دائرة إلى أخرى هو قفز إلى مرتبة أعمق، وهذا أساس كل المفارقات، لأننا مع ابن عربي أمام تجربتي الفناء والبقاء، حيث الخروج عن الذات -الأنا- التجريبية/الكثرة شرط للفناء والعودة من الوحدة إلى الكثرة شرط ملزم للبقاء.

فإذا كانت المفارقات لا تتحقق إلا في العالم الأعلى، فإن هذا يبرر عمق التجربة لاصوفية للشيخ الأكبر والتي تنتهي إلى أن العالم "ظل ممتد" ككثرة. وأطروحة الامتداد تتخذ محددات متعددة أهمها "الحركة على الاستدارة" أو "الأشكال الدائرية" ذات البعد المعرفي والوجودي، وهي بهذا نفي لأطروحة الخلاء وتأكيد للقول بأن الطبيعة تخشى الفراغ "أول شكل قبله الجسم، الإستدارة وهو المسمى فلكا". فالحركة على الاستدارة ملء للفراغ الوجداني والمعرفي، إنها طريق للسمو بالذات نحو "عمق بلا قرار"، حيث النقطة كأصل للشكل والواحد كأصل للكثرة، وهذا ما يجعل من الحركة الدائرية موجهة بموقف أنطولوجي وإعادة نظر في مسألة الواحد وعلاقته بالكثير. فإذا كان الواحد في الموقف الرشدي يمتاز بأوليته العددية، فإن وراء هذا رغبة في إثبات ما هو أول وما ليس بأول أو تأسيس "للفلسفة الأولى" المختصة بمبحث العلية، وتأكيد فاعلية الفاعل. أما الشيخ الأكبر، فإن الواحد العددي في نظره ليس كميا بل نوعيا لأن أول الأعداد ما زاد على الواحد. و"الأحد لا يكون عنه شيء البتة، وأن أول الأعداد إنما هو الإثنان، ولا يكون عن الاثنين شيء أصلا، ما لم يكن ثالث بزوجهما ويربط بعضهما ببعض"(31).

إن استراتيجية ابن عربي، تستهدف تأسيس الأسس المتمثلة في الرابطة الوجودية أو العلاقة بين الحق والخلق، بين الواحد والكثير فالبقاء تحت سقف الواحدية العددية هو إقصاء للوحدة الممكنة وسقوط بمعنى ما في نظرية الفيض. بينما العلاقة ليست مباشرة لأن علة وجود الكثير تتطلب وسيط أو "مكانا محايدا"(32) بلغة د.محمد مصباحي. إلا أن دلالة هذا المكان اتخذت أبعادا متعددة فهو مع السهر وردي ينبعت بـ"بلد اللاأين" ومع ابن عربي بالبرزخ أو "أرض الحقيقة"، وخاصيته التيوصوفية أنه منفتح أما خاصيته العقلية وهي الانغلاق، فهو ذو ماهية نظرية اكتماله هو في فعل التعقل، أما ابن عربي فإنه أعطى لهذا المكان صفة جبروتية، فهو -علام الجبروت- أو مكان تحقق الألوهية كاسم مكون من حروف رامزة إلى البعد الكوني للصورة وإلى علاقة العوالم فيما بينها: ملكوت -جبروت- ملك. فما الداعي إلى الرمزية لدى ابن عربي وبالأساس رمزية الحروف؟

إن وراء هذا موقفا من اللغة والحرف وبالتالي العالم والوجود، وهذا ما شكل عنصر اختلاف بين الرجلين، فبقدر ما كان القول الرشدي يروح بناء ثقافية نظرية-اجتماعية سياسية علمية، بقدر ما كان الشيخ الأكبر يتجه نحو بناء ثقافة روحية عمقها الرمز وخطاب المخيلة. لأن الغرض هو معرفة الوجود وبدء العالم أو افتتاحه، في هذا الإطار يميز الشيخ الأكبر بين "المصحف الكبير" والقرآن: الأول تلاوة حال والثاني تلاوة قول. فالعالم هو مجموع حروف خطية ورقمية أو أشكال وأعداد، لكن نظامها وترتيبها خاضع لوعي روحي متمثل في الأحوال الخاصة بالعارف أو بالمعرفة الـ"ماوراء طول العقل" -القلب-. أما "تلاوة القول" -الشرع- فمحدودة بحدود الظاهر وبقاء في حدود المقول دون تتبع أسراره المتجددة واللانهائية.

"ولما اردنا أن نفتح معرفة الوجود وابتداء العالم، الذي هو عندنا "المصحف الكبير" الذي تلاه الحق علينا تلاوة حال، كما أن القرآن تلاوة قول؛ فالعالم حروف مخطوطة مرقومة في زق "الوجود المنشور" ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا تنتهي"(33).

فهل القول "بالوجود المنشور" نسف للوحدة المأمولة وهدم لها؟ لأن الوجود المعني هنا، من طبيعته الانتشار والتوزع والاختلاف والتعدد، وهذا بخلاف الوجود "المشار إليه" والمشخص كقضية متبينة موضوعا وحملا، وبالتالي فهو رهين بعلائقه المتعددة. فإذا كان العالم-الإنسان- صورة للحق، فإن ما وراء الصورة هو أشكال: حروف مخطوطة وأرقام. وألا يمكن القول بأن هذا ما يحول العالم إلى جسم ممتد (ظل)؟ لكن إمكانية الوحدة تتطلب استفهاما حول دور "الرقائق" أو "الأسماء الإلهية" ذات المنزلة الوسيطية أو الأسماء ذات الحروف الدالة والرامزة؛ ولأن إشكالية الواحد في علاقته بالكثير تدعو إلى مفارقة أعمق بين الرجلين -ابن رشد- ابن عربي-، وإن كان ما يجمعهما هو الحق. إلا أن هذا الأخير يتخذ بعدا مفهوميا مع فيلسوف قرطبة ومراكش وبعدا اسميا مع ابن عربي. وهذه المفارقة لا تنفصل ووجودنا الراهن: الحداثي وما بعد حداثي. فإذا كان المطلب الحضاري اليوم هو مقاربة "ابن رشد الحداثي" انطلاقا من هم اجتماعي-تاريخي، وبالتالي إعطائه راهنية كخطاب تراثي "أنواري"، فإن المسألة تتخذ بعدا آخر مع "الشيخ الأكبر" وهو "موت الحضارة" ذاتها كبناء عقلي. ويتجلى هذا في المفارقة حول الواحد. فإذا حافظ الأول -ابن رشد- على شموليته وكليته بتبريرات عقلية-منطقية. فإن هذا الواحد نفسه قد أصابه "التشظي" مع الشيخ الأكبر: إنه الأنا والآخر واصل هذا هو "آلة كن" المتوزعة في صورة -ن- ذات الأصل الدائري والبدئي-ن-.


الهوامش:

1 - إن هذا الموضوع يستلهم أهم القضايا المثارة في مقالتي "فكر ونقد"

الأولى: تحت عنوان "حول فشل لقاء الشعر والفلسفة بالتصوف"، العدد 6، فبراير 1998، د.محمد المصباحي.

الثاني: تحت عنوان "أنحاء الوحدة وفعاليتها لدى ابن رشد: من العقل الكيفي إلى الكمي"، العدد 9، مايو 1998، د.محمد المصابحي.

ما يهمنا من هذا هو المفارقة بين القول الصوفي والفلسفي أو ذلك الحوار الخفي بين القولين الذي يتخذ من القضايا التأملية-الميتافيزيقية موضوعا له.

2 - تفاصيل هذا اللقاء مثبتة في الفتوحات المكية: الباب "الخامس عشر"، ص372-373، السفر 2: تحقيق وتقديم د.عثمان يحيى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985.

3 - د.محمد المصباحي: دراسات عربية: الوجه الآخر لـ"حداثة" ابن رشد، 9/10-1997، ص27.

4 - ابن عربي: ترجمان الأشواق، دار صادر، بيروت، 1966، ص9.

5 - ابن عربي: المجلد 2، دار صادر، بيروت، ص56.

6 - ابن عربي: ترجمان الأشواق، ص166.

7 - ابن عربي: الرسائل، كتاب القربى، ص11.

8 - الرجوع إلى مقالنا في جريدة "السياسة الجديدة" حول كتاب مبحث الإشكال-Problématologie لميشال مايير-Michel Meyer، العدد 30، أكتوبر 1997.

9 - الرجوع إلى المقال الأول: حول فشل لقاء الشعر والفلسفة بالتصوف، د.محمد المصابحي.

10 - ابن عربي: الفتوحات المكية، الباب الخامس عشر، السفر 2، ص372-373.

11 - إن الملفت للنظر هو أن إشكالية اللقاء بابن رشد أثارها ابن عربي أثناء حديثه عن "مداوي الكلوم"، أو قطب الزمان وهو عنده صاحب علوم ومعارف، ولهذا ختم حديثه عن لقائه الحي-الأول- بابن رشد حول هذه الشخصية ذات العلوم والمعارف الشاملة والجامعة -مداوي الكلوم- قائلا: "وهو عين هذه المسألة التي ذكرها هذا القطب الإمام، أعني مداوي الكلوم".

ومداوي الكلوم بإيجاز هو شخص إلهي أو تحققت فيه الألوهية. فهل ابن عربي كانت تتصارع في ذهنيته شخصيات ونماذج، مما جعله ينتصر إلى نموذج القطب بالمعنى الصوفي؟

انظر:

*Chookiewics (M): Les immuminations de la Mecque, p.65, Albin Michel 1997.

12 - إن انتصار "الشيخ الأكبر" للقطب يرجع إلى حدث هام في حياته، ويرجع هذا إلى لقائه بأحد العارفين وهو "صالح البربري" يقول عنه "وقد كان شيخنا "صالح البربري" بإسبيلية قد قال لي يا ولدي إياك أن تذوق الخل بعد العسل فعلمت مراده" إن اللقاء بهذا العارف يحمل دلالة قصوى في حياة ابن عربي انطلاقا من الوصية السابقة ذات المضمون الرمزي: ومفادها هو الابتعاد عن العالم المحسوس واليومي: والذي جعل ابن عربي يمجد هذه الشخصية ويعتقد بهذه الوصية هو حصول وقائع ذكرها له هذا العارف: كالصراع مع العائلة من أجل التخلي عن الطريق الصوفي وخصوصا بعد موت أبيه، كما أن زواج أخته بأحد الأمراء لم يتم كما ذكر له ذلك العارف صالح البربري: والأهم في هذه الوصية هو أنها جاءت بعد لقائه بابن رشد، وترجح "كلود عداس" اللقاء بهذا العارف سنة 580هـ. أما لقاؤه بابن رشد فكان ما بين 575-580هـ مع الترجيح أن عمر ابن عربي في لقائه بابن رشد لم يتجاوز بعد الخامسة عشرة سنة.

انظر في هذا الإطار: الفتوحات المكية، المجلد 3، دار صادر بيروت، ص488.

*Addas (C.): Ibn Arabi ou la quête du soufre rouge, Gallimard, 1989, p.154.

13 - إن إشكالية الخيال تشكل مبحثا متميزا عند ابن عربي، والقول بالخيال المطلق هو إنجاز "لنظرية في المعرفة"، خارج النبذ والإقصاء الذين تم بهما إقصاء الصورة أو قتلها حسب تعبير الشيخ الأكبر وبناؤه لهذه النظرية في الخيال هو من أجل بلورة تمثل روحي للمتعالي أو الغيب.

وفي هذا الإطار يميز بين الهمة والوهم، الخيال المتصل والمنفصل فالأول يكون مرتبطا بالموضوع أو مثبتا في صورة معينة (الله المخلوق في الاعتقادات: موضوع لهذا الخيال). أما الثاني -المنفصل- فهو إعلان عن غياب موضوع محدد لأن الصور متحولة ومتجددة -حضرة الخيال- الموضوع هنا هو العالم الوسيط أو عالم الصور.

والتمييز بين نمطين من الخيال هو من أجل الوصول إلى تكامل ووحدة بينهما في ما يسميه بالخيال المطلق أو الحضرة الجامعة والشاملة. وهذا ما دفع كوربان إلى القول "بالخيال المبدع" الذي يتأسس في أفق الخيال المنفصل، لأن الخيال المتصل هو وهم -العامة- أما المنفصل فهو قدرة على الإنتاج والإبداع أو إظهار اللامرئي في المرئي. وهذا ما يسميه كوربان بالخيال التيوفاني الرجوع إلى:

*Corbin (H): L’imagination créatrice dans le soufrisme d’Ibn Arabi.

-
Lahmayd boumahdi
Lahmayd boumahdi
أعروسي(ة) مسيطر(ة)
أعروسي(ة) مسيطر(ة)

عدد المساهمات : 779
العمر : 35
الموقع : مراكش
العمل/المهنة : طالب باحث

http://www.laaroussine.forumr.biz

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كتاب الاسبوع الرابع :   لقاء ابن رشد وابن عربي 1  Empty رد: كتاب الاسبوع الرابع : لقاء ابن رشد وابن عربي 1

مُساهمة من طرف محمد علي الأحد 19 يونيو 2011, 9:46 pm

السلام عليكم

جيد أخي لحميد

محمد علي
أعروسي(ة) مبدع(ة)
أعروسي(ة) مبدع(ة)

عدد المساهمات : 168

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كتاب الاسبوع الرابع :   لقاء ابن رشد وابن عربي 1  Empty رد: كتاب الاسبوع الرابع : لقاء ابن رشد وابن عربي 1

مُساهمة من طرف Lahmayd boumahdi الأربعاء 24 أغسطس 2011, 11:06 pm



مرور جميل أستاذي الفاضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل
محمد علي
Lahmayd boumahdi
Lahmayd boumahdi
أعروسي(ة) مسيطر(ة)
أعروسي(ة) مسيطر(ة)

عدد المساهمات : 779
العمر : 35
الموقع : مراكش
العمل/المهنة : طالب باحث

http://www.laaroussine.forumr.biz

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كتاب الاسبوع الرابع :   لقاء ابن رشد وابن عربي 1  Empty رد: كتاب الاسبوع الرابع : لقاء ابن رشد وابن عربي 1

مُساهمة من طرف محمد علي الثلاثاء 30 أغسطس 2011, 2:28 am

شكرا لكم

ودمتم للقبيلة سالمين

محمد علي
أعروسي(ة) مبدع(ة)
أعروسي(ة) مبدع(ة)

عدد المساهمات : 168

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى